يعمد كثير من أهل الأهواء إلى إيراد جملة متكاثرة من المقدمات الشرعية الصحيحة يصدرون بها تخليطهم الفاسد، لا لإيمانهم بمرجعية النص الشرعي بطبيعة الحال، وليس الخلوص إلى الحق أحد أغراضهم قطعاً، إنما يريدون إثبات أحقيتهم في المشاركة العلمية، وخالص مذهبهم التوسل بالنص الشرعي تجويزاً وترخيصاً لمزاولة التحريف العلمي!
ترخيص مزاولة التحريف! |
فإذا قيل للواحد
منهم: دع الفن لأهله، واصرف عنا ضلالك وفسادك، رد متشدقاً: أما ترى قال الله وقال
رسوله؟! إن لم أكن من أهله فلا كان له أهل!.. وما علم المسكين أن مشاكلته العالم
لا تجعل منه عالمّا، وأن الحمار مهما أظهر أنيابه لا ينقلب أسداً، بل يظل حماراً..
يعيش حماراً، ويموت حماراً.
هذا وإن عندي نسخة من
كتاب "كليلة ودمنة" (اخترعت هذه النسخة من كليلة ودمنة على نهج الأستاذ
الكبير مصطفى صادق الرافعي رحمه الله تعالى)، ليس مثلها عند أحد، ما شئت من مثل
إلا وجدته فيها، وقد رجعت إليها اليوم فأصبت فيها هذه الحكاية:
قال كليلة: ألا تضرب
لي المثل الذي قلت يا دمنة؟ قال دمنة: زعموا أن حماراً -غبياً بين الحمير أنفسهم-
قابل أسداً ضخم الجثة عظيم الهامة، كث الشعر، تهابه الحيوانات ولا تعصي له أمراً،
فلما رأى ذلك منه ساءه أن يكون للأسد ما ليس له، فأعمل ذهنه
وفكر وقدر، ثم فكر وقدر ثلاثاً وأربعاً، فقتل والله كيف قدر!
وذلك
لما قال في نفسه: إن الأسد مهاب في بني جنسنا، وما ذاك والله إلا أننا نسير وقد
أغلقنا أفواهنا وأخفينا أنيابنا، وليس يفضل الأسد عنا إلا أنه يظهر أنيابه، ففاز
بالمكان دوننا، ولسنا أقل منه وليس هو بأجدر منا، فمالي لا أظهر أنيابي فأكون
أسداً؟!
فكر
الحمار -وليته ما فكر- وبينما هو مستغرق في حركة تحركت معها
شفتاه العريضتان يمنة ويسرة مظهراً بذلك أنيابه، يحاكي في ذهنه بطولات الأسد
وأمجاده، وبقي على ذلك حتى بات لا يرى نفسه إلا أسداً بين الأسود! يمشي مشيتهم
ويسعى سعيهم، وذلك أن السلوك ثمرة الفكرة والعقيدة، ومن تغذى على الأوهام تغذت
الأوهام عليه، وبينما هو على تلك الحال العجيبة المضطربة إذ مرت به نملة حكيمة
فأنكرت حاله وقالت:
أيها
الحمار، ما لك تقف مشدوهاً مضطرباً، أجننت أم جرى عليك من الآفات ما أذهب البقية
الباقية في عقلك؟! رد الحمار مغضباً: أعجب لأمرك أيتها النملة، قد وهبك الله عقلاً
وحكمة فما لك تهبطين بنفسك في دركات الجهل والهوى، ما أُراه أعماك إلا الغل
والحسد!
فقالت
النملة مشفقةً من حاله عالمة بمآله: رد الله عليك عقلك، وداوى علتك، أما أنا فإني
راضية بالمكان الذي أنزلنيه الله وما أراه أراد بإنزالي إياه إلا خيراً، فلا أحقره
ولا أزري به، فالحمدلله الذي به أدرك مكاني فلا أجاوزه، وأعرف نقصي وضعفي فأجانبه،
أما أنت أيها الحمار فإياك إياك وأن يحملك جنونك على مجاورة الأسود فإنك لا تأمن
غضبتهم إذ لست منهم بمكان، وإن عهدي بمثلك قريب!
ولم
تكد تكمل النملة حديثها حتى انطلق الحمار مزهواً رافعاً رأسه، محركاً شفته،
متدلياً من بينهما لسانه يذهب ذات اليمين وذات الشمال في حركة تدل على كمال عقله! كلما لقي
حيواناً قال له مقالته للنملة ومضى في سبيله فرحاً، وظل على تلك الحال حتى بدا له
قطيع من الأسود فقال هم إخوتي جمعني الله بهم!
وانطلق
يسعى حتى فلما رأوه استنكروا مكانه وقذرهم حاله، فكشرو عن أنيابهم، فظن المسكين
أنما يحيونه كما يحيون الواحد منهم ، كلما بالغوا في الغضب بالغ ثم في الفرح،
وأتبعه الشيطان خطواته، حتى إن كاد ليظن نفسه سيداً عليهم! فقال في نفسه: عيب على
مثلي أن يُسلم علي فلا أجيب السلام بمثله! بل والله لأردنّه بأحسن منه!
فما
كان منه إلا أن باعد بين شفتيه وأخرج لسانه، فهال الأسود منظره، وبلغ استقذارهم
إياه غايته، فانكبوا عليه قطعاً وضرباً! فما إن قاموا عنه حتى أفاق من إليه عقله،
فقال في نفسه: كانت النملة والله أعقلَ مني، عرفت سكرته ورجع قدرها، ورضيت منزلها،
ففازت، وسعدت وليس لي إلا أن ألحق بها فأكون مثلها، وقد خاب وخسر من وٌعظ فلم يتعظ
ولم يعتبر، ما أنا من اليوم إلا نملة!..
الكاتب: عبدالله الخطيب
اكتب تعليق اذا كان لديك اي اقتراح أو سؤال عن الموضوع