📁 آخر المقالات

تزبب قبل أن يتحصرم

أُغلقت الأضواء وأسدلت الأستار وانفض الناس، هذا عائد بأجر وذاك بأجرين، وآخرون بخفي حنين، لا لهم ولا عليهم إلا ضياع أعمارهم وشغل أذهانهم، وما عهدت الماجريات يوماً إلا محرقة للأعمار مقبرة للأذهان -وقاكم الله لوثاتها وأنجاكم من أوحالها-، أما صاحب الحدث فجاثم خلف الستائر حيران، يعض الأصابع ندماً ويتخبط سقماً، فهو مع تفرق الناس عنه بعد اجتماعهم، نسيانهم إياه بعد ادكارهم، لم تفارقه الخواطر ساعة، وتولى عنه الشيطان مدبراً بعد أن صرف له الطاعة، فتركه مذهولاً يرقب الصراع الدائر بين جنبيه، فلا نفسه الأمارة قادرة على أن تنحو منحى الشيطان وتدبر تدبيره وتسلك مسالكه، ولا نفسه اللوامة قادرة على أن تعود به وتحتمل التبعة وتسدد الثمن، وهو من بعد يلومهما جميعاً فتطرقان إطراق الخائب الحسير، يستمر الصراع ويتعدى باحتداده الباطن إلى الظاهر، فالجوارح مضطربة بين الإقدام والإحجام، إذا لحنت الأمارة بحجتها وقطعت منافذ اللوامة تبعتها الجوارح خاضعة، ثم إذا وجدت اللوامة ثلمة تسللت فأنفذت أمرها ونهيها وليس للجوارح في ذلك إلا مطلق السمع والطاعة.. وبينا هو في تلك الحال، تائه بين الشك والضلال، صُورت له الدنيا سوداء قاتمة، وما هي بالسوداء ولا بالقاتمة، ما سودها إلا ضيق عيني عن الاتساع لها، فأضواء الشرف والشهرة قد أعمت بصره وحالت دون نفاذ بصيرته، وقد يعاقب الله عز وجل المرء على إعراضه بأن يعميه عن الآيات، فما يكون له حينئذ إلى الهدى من سبيل إلا رحمة من الغفور الرحيم، نعوذ بالله من سوء المنقلب، والحور بعد الكور، والسخط بعد الرضى، ونسأله حسن الخاتمة!..

تزبب قبل أن يتحصرم
تزبب قبل أن يتحصرم

أعرفتم أي قصة هذه؟ ومن يكون صاحبها؟!

رام البروز قبل البلوغ، وتسوّد قبل التفقه، فضرب لأجله المثل "تزبب قبل أن يتحصرم"، ادعى العلم وليس هو بعالم، وتكلف ألقاباً ليس لها بأهل فحق فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم "الم تشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور"، لم يقل لمسألة لا أعلمها قط، اتبع الشاذ و حفل بالغريب و تجاسر على الفتوى، فكان ممن كثّر نقطة العلم بجهله، فضلّ بتقوله على الله وأضل (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم)! أطلق بصره في عورات المؤمنين ولسانه في أعراضهم، فما سلم منه العلماء الأجلاء فضلاً عن العامة البسطاء!

قال الحافظ ابن القيم رحمه الله فيه:

فَـظٌّ غَلِيــظٌ جَــاهِلٌ مُتَمَعْــلِمٌ ... ضَخْـمُ العِمَامَـةِ وَاسِعُ الأرْدَاِنِ

مُتـَفَيــهِـقٌ مُتشَـــدِّقٌ مُتَضَــلِّـعٌ ... بالجهـلِ ذو ضَـلْعٍ مِنَ العِرْفَانِ

مُزْجَى البِضَاعَةِ في العُلُومِ وإنَّهُ ... زَاجٍ مِـنَ الإيــهَامِ والهَذَيَــاِنِ

يَشْــكُو إلَـى اللهِ الحُقُـوقَ تَظَلُّـمًا ... مِـنْ جَـهْــلِهِ كَشِكَايَــةِ الأبْـدَانِ

مِن جَاهِـل مُتَطـبِّبٍ يـُفْتي الوَرَى ... وَيُحِيـلُ ذَاكَ عَلَى قَضَا الرَّحمْنِ

عَجْت فـُرُوجُ الخَلْـقِ ثُمَّ دِمَاؤُهُـم ... وَحُــقُوقُـهُـم مِـنْهُ إلَـى الـدَّياَّنِ

مَا عِنْدَهُ عِلْمٌ سِوَى التَّكْفِيـرِ والتَّـ ... ـبديــعِ والتَّضْــلِيلِ وَالبُــهْتَانِ

فَإذَا تـَيـَقَّـنَ أنَّــهُ المـغْــلُـوبُ عِنْـ ... ـدَ تـَقَابُلِ الفُـرْسَـانِ في المـيْدَانِ

قَالَ اشْتَكُــوهُ إلَى القُضَاةِ فإنْ هُمُ ... حَـكَمُوا وَإلَّا اشْــكُوهُ لِلسُّلْطان

وقال رحمه الله تعالى:

هُوَ فَضْـلَةٌ فِـي النَّاسَ لا عِلْـمٌ وَلَا ... دِيـنٌ وَلَا تمَكِـيـنُ ذِي سُلْطَــانِ

فَإذَا رَأى شَـرًّا تَحَــرَّكَ يَبـتَــغِي ... ذِكْـرًا كَمِـثْلِ تَحَــرُّكِ الثـُّعْبَــانِ

كما قال عنه ابن حزم رحمه الله: "لا آفة على العلوم وأهلها، أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدّرون أنهم يصلحون"، وقال ابن إسحاق الشاطبي رحمه الله: "قلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد، غلطاً أو مغالطة".

فيا سالكاً طريق العلم، لا تتصدر قبل أن تتأهل! إياك والتعجل في تصدير آرائك قبل التمكن والنبوغ، فإنك إن فعلت لحقك الندم واشتد عليك بقدر عروجك في مدارج العلم والحكمة بعدئذ، وقد حكى الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله ندمه على كثير مما صدّره في مقتبل عمره وعزى ذلك إلى ما كان يعتريه من خفة الشباب وحماسه، فكما قيل: العلم ثلاثة أشبار من دخل في الشبر الأول تكبر -فصار جهله مركباً-، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه لا يعلم!".

فقد ينال الجهل منك أول سيرك فتتضخم لك نفسك وتظن منها العلم والحكمة فترى فيها صورة متوهمة ليست هي منها في شيء، فيحملك جهلك المركب على الخوض فيما لا تعلم، ولذا قالوا في المثل "تزبب قبل أن يتحصرم"، فحري بك أن تطيل فكرك بقول عمر رضي الله عنه "تفقهوا قبل أن تسودوا" وتجعله لك نبراساً، فأنت ما سلكت طريق العلم إلا "طلبا له"، وتطلبك العلم ما هو إلا صورة من صور إقرارك بجهلك ونقصك وحاجتك، فليس في قولي هذا استصغار لك أو تحقير من شأنك، بل إن من الحكمة بحقك أن تعرف جهلك وتتبصر في نفسك؛ ليحملك ذلك على التؤدة و التواضع، فمن عرف قدر نفسه تواضع وتأدب، وما أحوجك في هذا المسير إلى الأدب!

قال مجاهد رحمه الله تعالى "لا ينال العلم مستحٍ ولا مستكبر"، فكن -أخيّ- مقبلاً إذا أحجم من حولك حياءً، وأدبر إذا أقبلواً عُجباً وكبراً، تنل من العلم بحظ وافر وتحفظ عليك نفسك ودينك.

ثم لا بد لك من التفرقة بين مقامين متفاوتين، فالبون شديد بين مقام العالم المذموم الذي بيناه، حيث تصدر الأحكام وتقطع بها وتسفه ما عداها، بجعلك من عقلك معياراً تحتكم إليه كلما جهلت، فأنت حينئذ مؤلهٌ عقلك، مضلل منهو خير منك، وبين مقام التعلم المحمود الذي يسوغ في طياته وأطره الضيقة الموجهة قدر من المناقشة وعرض الاستشكالات، وإبداء الخواطر وتقديم الاعتراضات، فكما قيل "لقاء الرجال لقاح العقول"، فإذا طُرحت في الساحة العامة بعض المواضيع الشائكة المتطلبة لقدر من الأهلية العلمية وجب عليك أن تكف وتنأى بنفسك عنها، فأنت إن عافستها كنت لنفسك ظالماً وللناس مضلاً، فأفسدت من حيث أردت الإصلاح وأسأت من حيث ظننت الإحسان.

أما إن كان ذلك في سياقات التعلم وأطره -مما يُحتاج إليه الطالب- وجب عليك أن تقبل من غيرك المخالفة موجهاً أصابع الاتهام لقصور نفسك وقلة علمك، ولتحذر من القطع والجزم بالظن والوهم دون اليقين من العلم، وليكن حديثك حديث متعلم يرجو توسع المدارك وبناء الملكات، لا تريد بذلك مقارعة العلماء وتسور العقبات، فإنك إن جزمت وأخطأت عرضت نفسك للفتنة، إذ الرجوع عن الخطأ صعب ثقيل وعلى النفس عسير؛ لتطلبه قدراً من الشجاعة والتقوى لا توجد عند كل أحد في بدايات المسير، فإن منعك جهلك من العودة إلى الحق ازددت في الباطل غياً، حتى إذا ثقل بك أمرك هويت في مستنقعات التيه والضلال وقيدك الكبر بالقيود والأغلال، وبعدت عن الهدى بقدر صدودك وإعراضك عنه وقت عُرض عليك، نسأل الله السلامة والعافية.

الكاتب: عبدالله الخطيب

Mustafa Alhassan
Mustafa Alhassan
تعليقات