📁 آخر المقالات

داء الأدب

كنت قد عزمت على نفسي ألا أخط حرفاً ولا أجري قلماً حتى أحوز من الأدب بنصيب، فليس كل من أجرى قلمه وأطلق يده للريح أديب، كما ليس كل من اعتلى المنبر ولبس العمامة خطيب وما فسدت العلوم والفنون إلا بأنصاف المتعلمين ،والمتفننين وبني جلدتهم من المداحين المتزلفين فلما اعتزمت ذلك وضعت بيني وبين الكتابة سوراً من حديد، ظاهره رحمة بكم أيها القراء وباطنه عذاب شديد، فقد توالدت المشاعر في جوفي توالد من لا يخشى الفقر، وتلاطمت الأفكار واضطربت فهي كالبحر هائج لا ساحل له ولا فيه مستقر..

داء الأدب
داء الأدب

إني مريض .. مريض بداء الأدب، ودوائي في الأدب..

أنا الطبيب وأنا المريض، وفي دائي أجد دوائي، فما عساي أفعل؟

تداويت من ليلى بليلى من الهوى .. كما يتداوى شارب الخمر بالخمر

لست ممن يشكو بثه وحزنه، ولا ممن يعلن سقمه وألمه، ولكني اليوم أعتذر .. أعتذر من الأدباء إذا أفسدت، صنعتهم، ومن القراء إذا خالفت تطلعهم .. بيد أني أعدكم أني لن أقول إلا ما أدين الله به وأراه حقاً، لا أحابي في ذلك عبداً، ولا أخاف أحداً، وأرجو من الله الثبات والتسديد.

ولكن، لم كانت الكتابة دواءً دون ما عداها؟

ومالي أحنّ إليها كلما بُعدت عنها فلا أرتضي سواها؟

إن في الكتابة الأنس بعد الوحشة، والسكن بعد الغربة، وأنا اليوم أعيش غربتين، غربة في الدنيا وغربة في الدين، فأما الأولى فإني أتعزى من فاقني مصيبة، فإن أك قد فقدت الوطن فغيري فقد الوطن والأهل والمال والولد، فقدت الوطن وغيري فقد نفسه لما باعها لمن سلبني وسلبه الوطن .. أما غربة الدين فمرة مريرة، تحترق فيها النفوس ألماً وهي تتمثل قول العبد الصالح الذي قتله قومه فقال وهو يدلف إلى الجنة (يا ليت قومي يعلمون) .. نعم، يا ليت قومي يعلمون بما عند الله من المغفرة والرحمة، يا ليت قومي يعلمون بما عند الله من العقاب والعذاب، يا ليتهم يعلمون..!

ويا ليتني أنا أنتهي إلى ما انتهى إليه العبد الصالح!

فقولوا لي، هل لي في غربتي من أنيس غير نفسي يسليني؟ أحدثها بما أحب فتحدثني، وإذا حزنت، تواسيني فيها عزائي إذا اشتدت الخطوب، وفرجي إذا عسرت علي الكروب، لا حرمني الله منها!

ثم إن للكتابة غاية تتجاوز أثرها النفسي في استجلاب الأنس والسكينة غاية هي أصل كل غاية، فمريض الأدب تنبعث في نفسه صور من الجمال، يعتل ويسقم إن لم يجسدها ويحييها لتكون واقعاً ماثلاً أمامه، كلما رغب فيه رامه، يراوح النظر إليه دون فترة، وينتشي بترداده على النفس الكرة بعد الكرة، فالخواطر متقلبة زائلة، ما إن تنبعث في النفس حتى تنصرف عنها، فيُهرع بانبعاثها الرسام إلى لوحه وفرشاته، والمعماري البنّاء إلى عدته وأدواته، والكاتب إلى قلمه ومبراته، الطرق شتى والغاية واحدة، فكلهم يبغي للجمال تخليداً، خلا أن اللوحات ما تلبث أن تبلى وتضيع، والقصور مهما علت صيّرها الزمان أطلالاً يترحم عليها لسان التاريخ، أما الكلمات فإنها خالدة في الصدور قبل السطور، لا تحرم بمر السنون وتعاقب الدهور، ولا يتبدل جمالها ما لم يتبدل الإنسان غير الإنسان أو اللسان غير اللسان!

فالأديب الحق يحركه جمال الصورة لا رغبات المستمعين، وإن كان تصويره ابتغاء الأدنى دون الأعلى عد متلصصاً على الأدب لا أديباً، إذ فقد بالدنو جوهر الأدب ورونقه وإن أبقى له حليته وزينته! ألا وإن جوهر الأدب الذي نرتضيه ليس إلا ابتغاء الجمال المحقق لرضى الله عز وجل والقائد إلى جنته، وإن يصرف أدبٌ في غير هذا الوجه فسد وأفسد ، وقد لمسنا ذلك وعاينا آثاره، والله المستعان!

ولما كان من أمري أن عزمت على الكتابة بات واجباً علي تبرئة الأدب مما ينسب إليه مما هو منه خلو، بأن أبين ثمرته المرتضاة التي غفل عنها من غفل، حتى صار بأعين الكثيرين لهواً فارغاً لا يبتغى فيه أجر، ولا يحقق به نصر، ولا يجنى منه أي ثمر، اللهم إلا العلقم المر!

إن جوهر الأدب كما بينت في ابتغاء الجمال، وقيمته في ذاته مقترنة بما يحمله صور جميلة؛ إذ التفاوت بين الأدباء إنما يكون بتفاوت مراتب الجمال ودرجاته، وقيمة الجمال تكمن في أنه بوابة يولج من خلالها إلى النفوس فيسطى عليها، وسر ذلك أن الله جعل في النفس آلتين توجهانها وتحركانها، قلب وعقل، هما في صراع دائم، فالأول يهوى والآخر يعقل، يغلب داعي الهوى تارة ويلجمه داعي العقل أخرى، وما كفر الأولين والآخرين إلا بغلبة داعي الهوى في نفوسهم وامتطاؤه لعقولهم، وما إيمان الشهداء والصديقين إلا بعلو داعي العقل في نفوسهم وحيلولته دون أهواء قلوبهم، فإذا عرفنا هذا وأضفنا إليه علمنا اليقين بأن الجمال مما تهواه القلوب وأنه أحد مطلوباتها التي بها تلتذ، أدركنا بذلك أثره الفذ على النفوس إذ به تقاد القلوب كما بالعلم تقاد العقول، فهو أداة إفساد إن ترك للمفسدين، وأداة إصلاح إن اغتنمه المصلحون وأعلوا شأنه وسلكوا سبل تحصيله!

فالجمال إن سُخر محامياً عن الرذيلة مشجعاً عليها اشتد ميل القلب إليها وردد العقل ما لها وما عليها؟؟ وإن سُخر محامياً عن الفضيلة داعياً إليها مال القلب معها وإليها ووافقه العقل عليها! هذا سر الجمال و به يعلو شأن الأدب ويسمو!

فأين نحن منه؟! وماذا بلغنا اليوم في مدارجه؟!

الأديب الحق يسخر الجمال في الدعوة إلى الله تعالى، ورب كلمة حق أخرجت العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد فالحق أخاذ في ذاته إذ النفوس عليه مجبولة، فكيف إذا كُسي من الحلل أحلاها وطُيب بالعطور أنداها، أما يكون له حينئذ سطوة تفوق كل سطوة؟ سطوة تخطف لب الحليم وتداوي القلب السقيم؟! وتبصّر العمي وتسمع الصم إذا ولوا مدبرين!

جاء في أخبار السيرة أن وفداً من بني تميم قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أسر عيينة بن حصن أحد عشر رجلاً من رجالهم، وإحدى وعشرين امرأة من نسائهم، وثلاثين صبياً من صبيانهم، فلما جاؤوا باب النبي صلى الله عليه وسلم نادوا: يا محمد اخرج إلينا، فلما خرج تعلقوا به، ثم قدموا عطارد بن الحاجب فتكلم وخطب، فأمر رسول الله ثابت بن قيس فأجابهم، ثم قام الزبرقان شاعر بني تميم مفاخراً فقام شاعر الإسلام حسان فأجابه على البديهة، فبما فرغ حسان قال الأقرع بن حابس: إن هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ثم أسلموا!

الأديب الحق يسخر الجمال في المنافحة عن دين الله والذود عنه، قال صلى الله عليه وسلم (جاهدوا المشركين بألسنتكم وأنفسكم وأموالكم وأيديكم)، فأما جهاد النفس والمال واليد فتعرفونه، وأما جهاد اللسان فها قد أنبأتكم خبره، ثم إنه -جهاد اللسان- قد يقدم حيناً على جهاد اليد والمال!

قال صلى الله عليه وسلم وهو محاصر أهل الطائف لكعب بن مالك "هيه!" يستنشده فأنشده قصيدة فيهم يقول:
قضينا من تهامة كل ريب .. وخيبر ثم أجمعنا السيوفا

نخيرها ولو نطقت لقالت .. قواطعهن دوساً أو ثقيفا

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لهن أسرع فيهم من وقع النبل)!

هذا وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على جهاد اللسان وأمر به غير مرة فكان من ذلك أن وضع منبراً لحسان رضي الله عنه في المسجد يقوم عليه ويهجو الكفار! وكان صلى الله عليه وسلم يقول (هجاهم حسان فشفى واشتفى)!..

الأديب الحق يسخر الجمال في شحذ الهمم ورفعها، تعالوا انظروا إلى اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في وضح النهار وتحت سهام الشمس ينقلون الحجارة وقد ثقل عليهم أمرهم وبلغ منهم الجهد مبلغه، فإذا برسول

الله يرتجز قائلاً وقد اغبر بطنه:

والله لولا الله ما اهتدينا .. ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا .. وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا .. إذا أرادوا فتنة أبينا

ورفع بها صوته: أبينا أبينا .. فكأني بصحبه لما سمعوا ارتجازه قد أُنسوا ما هم فيه من الجَهد، وتجدد في أنفسهم ما كانوا عليه من العهد، كلمات يسيرات روت أفئدتهم فاشتدت بها وقويت، فما كان منها إلا أن أن أثمرت وأينعت!

الأديب الحق يسخر الجمال في تزكية النفوس وتربيتها، قال معاوية بن أبي سفيان "اجعلوا الشعر أكبر همكم وأكثر آدابكم فإن فيه مآثر أسلافكم ومواضع إرشادكم فلقد رأيتني يوم الهزيمة وقد عزمت على الفرار فما

ردني إلا قول ابن الإطنابة:

أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي

لادفع عن مآثر صالحات ... واحمي بعد عن عرض صحيح

ومما زاد إيماني بأهمية الأدب ودوره في الإصلاح أنّا قلما نجد -وخاصةً بعد استحداث وسائل الإعلام الرقمية- صراع أفكار منفكاً عن أسلوب الخطاب وأدوات التجميل والتنميق، والتي غالباً ما يقف الحق أعزلاً أمامها، فيُغيّب ويحيد لا لضعفٍ فيه بل لضعف في عقول متلقيه أدى لغلبة الهوى عليهم واستقراره في نفوسهم، والأدب خير ما يستنقذ به هؤلاء!

هذا غيض من فيض، فالحديث عن الأدب وثمراته يطول، ومثلي لا يقدر على إيفاءهحقه، كيف وأنا عالة عليه وعلى وأهله؟..

الكاتب: عبدالله الخطيب

Mustafa Alhassan
Mustafa Alhassan
تعليقات