📁 آخر المقالات

(لباب المنهاج) في تعظيم حدود الله

أول ما وقعت عليه عيناي اليوم لما تفقدت الوارد من الرسائل إشعار بانطلاق مسابقة "لُبابة المنهاج"، وهي مسابقة لإثراء متن حديثي منتقى من ميراث النبوة لشيخنا ومعلمنا أحمد السيد -حفظه الله- ، وما أعظمها من فرحة تلك التي انتابتني حينها! وكيف لا أفرح وشيخنا قد يطلع على المشاركة الفائزة ويخص صاحبها بجميل الدعاء وطيب الثناء؟! ولا أعلم في لحظتي مكرمة أغلى من هذه!.

في تعظيم حدود الله
في تعظيم حدود الله

حلقت بأفكاري وخواطر نفسي إلا أني ما لبثتُ أن عكرت صفوها باستدعاء ما يثقلني من هموم وما يعتريني من نقائص، فمن أمامي جبل من الأشغال ومن خلفي جبل من الاتهامات التي ما أفتأ أتهم بها نفسي، فكان ذلك كالصفعة التي توقظ السكران وتعيده إلى ضيق الأرض بعد أن حلق في رحب السماء، خرجت من البريد منكسر النفس مكسور الخاطر وعدت أشتغل بما لي من حاجات وألبي ما علي من مسؤوليات، ومضت -وأنا على حالي- سويعات كأنهن في ثقلهن سنون طويلات!

ولكن أيها القراء..

هل تفتر نفس المحب عن تطلب رضى محبوبها لأجل وهم قيدها ؟ أوليس الأصل في النفوس أن تكون محلقة طليقة؟ أما ترون نفس الطفل كيف تكون حرة لا قيد يثقلها، ثم إذا كبر وقع كما وقع أبواه من قبله وقيدت نفسه الأوهام والشكوك..

الحب .. أعلى قوى الطبيعة، وبه رُفع أقوام وحُط أخرون، فدعونا اليوم -اليوم فقط- نستعين بقوى الحب لنزيل عنا قيودنا، لنعود، دعونا نخطئ ونتعثر، دعونا نصم آذاننا ونغلق أعيننا عن الأوهام ! ومن يدري .. لعلّنا بذلك نحلق!

رجعت إلى إشعار المسابقة أملأ منه عيني وأردد فيه فكري، فما أنا بالشاعر ولا بالأديب، ولا أظنني حزت من اسمي أي نصيب .. فما أنا كذلك بالخطيب! فأي المسارات تتسع لي؟! مهلا .. لمَ ما زلت متصلا بهذه الأوهام ؟ هل جعل الله الكتابة حكرا على أحد؟ وهل خص بها قوما دون آخرين؟ كتب العربي والأعجمي، الحر والعبد، الفقير والغني، الضعيف والقوي، فما لي اليوم لا أكتب؟!

مالي لا أكتب وقراء مقالي طيبو السريرة، جميلو الصفح، واسعو المغفرة، جابرو العثرة -كما أحسبكم-؟! مالي لا أكتب وموضوعي شريف في ذاته بليغ في أثره، يحسّن الكلام وإن كان ركيكاً، ويجمّله وإن كان قبيحا، يرتفع به في ميزان الحق وإن كان نازلاً في ميزان الأدب! مالي لا أكتب وحديثي اليوم عن تعظيم حدود الله وتعظيم أمره! ثم مالي لا أكتب وأنا أرى حرمات الله تدنس وحدوده تنتهك؟! بل ما لنا جميعا صامتون؟ أما نخشى أن يزيغ الله قلوبنا كما أزاغ قلوب قوم آخرين؟!

إني منذ هذه اللحظة .. منذ أن اخترت الحديث عن تعظيم حدود الله أعتبر مقالي هذا
واجباً دعوياً لا مشروعاً أدبياً، ومسؤولية شرعية ولا مشاركة عفوية.

بينا أنا أقلب الموضوع وأنظر إلى امتداداته في الواقع تبادرت إلى ذهني صور شتى تنبئ يقيناً باختلال تعظيم الله وتعظيم حدوده في قلوبنا، ولا أدري أي الصور أريكم وإلى أيها أشير، فالخطب اليوم جليل! ودعاة الحق قليل!

ففينا من ينام ملئ جفنيه قرير العين على كبائر لو حُمّلتها الجبال ما احتملتها! ولو حدّث عنها الفساق عبر التاريخ لاستعظموها! وصاحبنا هذا لا يحرك جفناً ولا تهتز له شعره! ظلم نفسه حتى صير قلبه كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً!

فإذا ما قام من فراشه سليم البدن وافر الصحة اغتر وظن أنه على خير وطال بذلك أمله، فعافس المنكرات وانتهك الحدود، وما يدري هذا المسكين أنه غافل قد لا يوقظه من غفلته إلا منادي الموت! فأيقظوا نُوّم دياركم قبل أن يوقظهم الموت، وتداركوهم قبل أن يهتف بهم الأجل!

ثم إذا صعدنا درجة قابلنا المحاجّ ذو الجدل، مورد الإشكالات، الباحث عن الثغرات، المتفيهق المتشدق، لا دليل إلا وعنده للخلوص منه ألفُ ألفِ سبيل، ولا يعنيه أن يكون منضبط المنهج ثابت الموقف، كالأفعى تبدل جلدها كل ساعة، يورد القول وضده بلا خجل، ويعلو على من حوله بلا وجل، خداع ذو دجل! يعامل شرع الله المنزل من السماء معاملة المحامي شرائع البشر، فيلتف يمنة ويسرة، يحرف الكلم عن مواضعه، ويحمل الألفاظ ما لا تحتمل، فهو وإن كذب على الناس في الدنيا فاتبعوه، فإنهم متبرئون منه يوم الدين، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، يبوء بإثمه وإثمهم، فرحه اليوم سبب شقاوته غدا، فهو معظم لأهوائه متبع لشهواته، يُلبس الهوى لباس العلم والدين، يرجو به شرعنة انحرافه ليستر بذلك عورته، وما علم أن لباسه مخرق مرقع، وأن عورته بادية مكشوفة، إن غيبها عن بعض الناس فهي لا تخفى على رب الناس!

فإذا ما صعدنا درجة أخرى مررنا بحكيم الرخص، تعرض عليه أقوال العلماء، فلا تقع عينه إلا على زلة كل عالم، ولا أدري أمن نبوغ علمه يعلم لكل عالم زلته، أم من شدة إمعانه في الفسق صار له ملكة وذوق في الرُخص! ثم إذا ما جمع ذلك كله في نفسه صار أفسق الناس وأضلهم، وهو يمنّي نفسه أنه متبع لشرع الله عامل بأمره ونهيه، فإذا قلت له قال الله انفض إلى كُراسه وقلب فيه بصره، ثم عاد يتمتم قال فلان قال فلان، سبحان الله، وهل يُرد قول الله بقول بشر!

أما بلوى عامة الناس فهي في تهوين الصغائر، ورب صغيرة صيرها صاحبها كبيرة بديمته عليها، فكان منها أن أوردته المهالك! وعلة مهوّن الصغائر في قصور بصره على الحدود دون من حدّها، وعلى الشرائع دون من شرعها، فالصغيرة في حق العظيم كبيرة، وهو ذاته -مهون الصغائر- إن جلس بحضرة وزير أو أمير جلس جلسة المتأدب وخنع خنوع الذليل، واستقبح في حقه دقائق الأمور قبل صغارها، ثم إذا توجه لربه طال واستطال وخاض في الصغائر خوضاً وأمعن فيها إمعانا، فإذا تذكر قال بلسانه دون قلبه: أستغفر الله، وعاد إلى خوضه من فوره! لا تزيده الذكرى إلا فسوقاً، فأين هذا من تحذير النبي صلى الله عليه وسلم : "إياكم ومحقرات الذنوب".

لا أحسبهم عرفوا قدر الله .. لا أحسبهم عرفوا قدر الله أولئك الذين انتهكوا حدوده ولمّا يعظموا أمره وأمر رسوله، فمن عرف الله خشيه واتقاه، ومن اتقاه عظّم أمره ونهيه، وعظّم أمر رسوله لما وجد طاعة الرسول مقترنة بطاعته، قال تعالى : (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)، فكيف يكون تعظيم الله حقاً؟ وهل عندنا من صورة نعرضها إزاء ما سبق؟ دعوني إذا أحكي لكم مواقف من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، فهم النموذج العملي الذي به نقتدي وبآثاره نهتدي.

هذي امرأة مخزومية، من بني مخزوم من أشراف العرب وساداتها، سرقت ما أوجب عليها حد السرقة، فتحرج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من إقامة الحد عليها، كيف وهي ذات العز والمكان في قومها، وقد كانت عادة العرب -بل وسنة الكون أجمع- أن يجري الحساب على الضعيف دون القوي، فما العمل وقد جاء الشرع مسقطاً تلك الاعتبارات على ما فيها من ثقل بعد أن استقرت في النفوس وأينعت أمدا طويلاً!

فظن الصحابة أنهم قد يجدوا لها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رخصة -لا أنهم أرادوا رد حدود الله حاشاهم-، فقالوا: "ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟" نعم من ذا الذي يحتمل هذا الأمر العظيم؟! من يحتمل مراجعة الرسول في حد من حدود الله، من عنده الجرأة لذلك!!

هكذا رباهم حبيبي صلى الله عليه وسلم على تعظيم الحدود وصونها، فقالوا: "ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم،" ويا أسفاه .. لو يعلم الصحابة كم في زماننا من أهل الجرأة!، فكلمه أسامة رضي الله عنه، فلما فعل تمعر وجه النبي غضبا -وكان لا يغضب صلى الله عليه وسلم إلا في حدود الله- فقال: "أتشفع في حد من حدود الله "! .. ما أثقلها من كلمة : "أتشفع في حد من حدود الله!،" ثم قام فاختطب فقال: "إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد!" ثم أقسم قسمه الخالد والذي قطع به كل اعتبار دنيوي فقال : "وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها!"، يا الله .. فاطمة؟! بنت النبي صلى الله عليه وسلم وثمرة فؤاده؟! بالله عليكم، أبعد هذا التعظيم لحدود الله تعظيم؟!

فما أرسخه من درس هذا الذي خطه الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه وفي نفوس الأمة جمعاء لما نحى نحو أبيه إبراهيم في تقديم حق الله على سائر الاعتبارات، فيا رب صل عليهما وعلى آلهما.

وهذا أبو بكر الصديق أول الرجال إيمانا، وأحبهم إلى رسول الله وأكثرهم له حباً، الأقرب منه سمتاً وهدياً، ثاني اثنين إذ هما في الغار رضي الله عنه وأرضاه، لما توفي رسول الله وصار خليفة للمؤمنين من بعده جاءته ابنة رسول الله فاطمة رضي الله عنها وهي أشرف نساء الأرض وسيدة أهل الجنة، وأي مكانة بعد هذه المكانة؟!

فدخلت عليه تستأذنه فيما رأته حقاً لها من ميراث أبيها صلوات ربي وسلامه عليه، وكان قد بلغ أبا بكر حديث رسول الله (نحن معشر الأنبياء لا نورث،) فلم يستحيي أبو بكر منها، ولم يجاملها إرضاءً لها وهي ذات المكانة والشرف، وصاحبة الحق عُرفاً، وقال لها مقولته التي صارت عظة للغافلين وعبرة للمعتبرين: (فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ)، وما أعجبها من مقولة! فإن كان أبو بكر وهو أول المؤمنين وأحد المبشرين يخشى أن يزيغ، فما لنا نحن العصاة المذنبون مطمئنين لا نخشى! يخشى رضي الله عنه أن يزيغ إذا ترك شيئا -أي شيء- مهما كان جنسه أو قدره ! فكيف بنا ونحن نترك أشياء وأشياء؟!

وذاك عمر رضي الله عنه أمير المؤمنين يتوسط مجلس الخلافة ومن حوله أشياخ بدر وعلماء الصحابة وأشراف الناس في جمع عظيم مهيب، يستأذن الحر بن قيس -وكان من النفر الذين يدنيهم عمر- لعيينة بن حصن وهو من عامة الناس فيأذن له عمر، فيدخل عليه عيينة ويبتدر قائلا : "هيْ يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل!"، قال ابن عباس وهو يروي الحديث : "فغضب عمر حتى همّ به!"، وذلك أنه قد اجتمع لعمر رضي الله عنه من الدواعي ما يبلغ بها ذلك المبلغ، فعنده رضي الله عنه من القدرة والبطش ما عنده، فهو خليفة المسلمين الذي خضعت له فارس والروم! وهو على أرضه وفي سلطانه وهذا أدعى لأن يفرض حكمه إذ لا تستقيم دولة دون محاسبة الخارجين، وهو رضي الله عنه قد اجتمع له مع تمكنه وقدرته ومشروعية فعله داعي الغضب! ومن لا يعرف غضبة عمر إذا غضب؟! ثم كيف يكون هذا الغضب وقد كان الاتهام له في عدله؟..

إن أعظم ما يؤذي الشريف اتهامه في شرفه، وأعظم ما يؤذي الصادق اتهامه في صدقه، فكيف باتهام عمر في عدله! ثم إن هذا الاتهام جاء من غير حق ودون وجه فليس من اتهمه بمظلوم أصلا! ثم أنه قد جاء علانية على جمع من أشراف العرب وساداتهم، وهذا أدعى لاستثارة النفس واستجلاب غضبها إذ في ذلك نوع توبيخ وتقريع لا يرضاه العزيز، ثم أن العرب كانوا أهل كرامة، تأبى نفوسهم المهانة، ويعدون عدم الانتصار للنفس جبناً وضعة، فإذا ما عرفنا هذا كله فهل لنا أن نتصور ما اجتمع في نفس عمر من الدواعي حينئذ؟! وهل يتصور أحدنا أن شيئا قد يرد عمر عما همّ به .. -اللهم إلا الموت؟!-

في هذه اللحظة يقول الحر بن قيس: "يا أمير المؤمنين ، إن الله تعالى قال لنبيه (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) وإن هذا من الجاهلين"، وقد عرف الحر حينئذ -وهو مدرك لمآخذ عمر- أنه ما من شيء قد يرد عمر عما همّ به إلا هذا فابتدره به، يقول ابن عباس رضي الله عنه في شهادة لا ينساها التاريخ: "والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله!" سبحان الله! ولولا أن الخبر قد صح لما صدقه كثيرون! وهل يقدر على صنيع عمر أحد بعد عمر؟! ما أتى به عمر رضي الله عنه من العجائب التي تدرس، وبها والله فاقنا..! رضي الله عنك وأرضاك يا عمر.

كثير من يعد نفسه من زمرة المعظمين لحدود الله العاملين بأمره ونهيه، ثم تراه عند أول ابتلاء ينكص ويرتد على عقبيه! وما ذلك إلا لنقص التعظيم في قلبه، فليس كل معظّم في الرخاء قادر على مثله في الشدة، وحقيقة التعظيم لا تظهر إلا عند منازعة مرادات النفس وأهوائها، أما اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تربوا في مدرسته وعلى يديه، ولا تفسير لعجائب أحوالهم خير من قوله تعالى في صفة المؤمنين: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) .. اللهم اجعلنا برحمتك منهم يا أرحم الراحمين.

الكاتب: عبدالله الخطيب

Mustafa Alhassan
Mustafa Alhassan
تعليقات