سورة هود، هذه السورة عجيبة، وثقيلة، وحبيبة إلى الروح .. ما قرأتُها أو سمعتُها إلا ويذهب وَهَلي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أفكر فيه، كيف تلقاها؟ وكيف كان وقعها عليه؟ وكيف تحمّل ثقَل آياتها؟
![]() |
سورة هود، هذه السورة عجيبة، وثقيلة، وحبيبة إلى الروح |
إن استحضار معنى تربية الله لنبيه في هذه السورة ليُشعرك بثقل آياتها، وثقل وقعها على النبي صلى الله عليه وسلم، وثقل العتاب الذي فيها له، إذ يقول الله تبارك وتعالى له: ﴿فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعضَ ما يوحى إِلَيكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدرُكَ أَن يَقولوا لَولا أُنزِلَ عَلَيهِ كَنزٌ أَو جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنتَ نَذيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ وَكيلٌ﴾ [هود: ١٢]. إن صاحب الرسالة لا ينبغي أن يشعر بالحرج من رسالته، بل على العكس من ذلك، لابد أن يمتلأ قلبه بمعاني العزة والاستعلاء الإيماني بما هو عليه من الحق.
وهذه السورة عجيبة في غرس معاني العزة، والاستعلاء الإيماني، إذ فيها ذكرٌ لنماذج من المكذبين مع أنبيائهم، وهم يسخرون منهم، ويستهزؤن بهم، ويطعنون في رسالتهم، فلم يزعزع ذلك شيئًا من تمسكهم برسالتهم، ولم يُضعف شيئًا من عزتهم واستمساكهم بما أوحيَ إليهم، بل لم يزدهم ذلك إلا عزةً واستعلاءً، بل وإشفاقًا على المُكذبين المستهزئين إذ حرموا الرحمة التي اختُصّوا بها، وعُمّيت عليهم فلم يتبعهوها، فخسروا أنفسهم، وأهلكوها.
ففيها يقول نوح لقومه إذ يسخرون منه، ومن عمله المصادم للمنطق بصنع الفُلك في الصحراء استجابة لأمر ربه: ﴿إِن تَسخَروا مِنّا فَإِنّا نَسخَرُ مِنكُم كَما تَسخَرونَ﴾، بل ويهددهم ويتوعدهم في موقفه هذا: ﴿فَسَوفَ تَعلَمونَ مَن يَأتيهِ عَذابٌ يُخزيهِ وَيَحِلُّ عَلَيهِ عَذابٌ مُقيمٌ﴾.
وفيها عزّة هود عليه السلام وثقته بربه إذ استهزأ به قومه وهددوه وتوعدوه، فما كان جوابه إلا أن قال: ﴿إِنّي أُشهِدُ اللَّهَ وَاشهَدوا أَنّي بَريءٌ مِمّا تُشرِكونَ..مِن دونِهِ فَكيدوني جَميعًا ثُمَّ لا تُنظِرونِ).
وفيها اعتراف صالح عليه السلام بأنه عبدٌ مُرسلٌ مأمور، وأن الله آتاه رحمةً من عنده بما أوحى إليه، إذ حاول قومه أن يُساوموه على مكانته فيهم قبل مجيئه بالرسالة، فقال: (يا قَومِ أَرَأَيتُم إِن كُنتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبّي وَآتاني مِنهُ رَحمَةً فَمَن يَنصُرُني مِنَ اللَّهِ إِن عَصَيتُهُ فَما تَزيدونَني غَيرَ تَخسيرٍ﴾ [هود: ٦٣].
وفيها بيان الركن الشديد الذي يأوي إليه صاحب الرسالة.
وفيها: استمساك شعيب بما أوحيَ إليه، وخوفه من الزيغ والضلال إن ترك شيئًا منه أو خالفه: ﴿وَما أُريدُ أَن أُخالِفَكُم إِلى ما أَنهاكُم عَنهُ إِن أُريدُ إِلَّا الإِصلاحَ مَا استَطَعتُ وَما تَوفيقي إِلّا بِاللَّهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيهِ أُنيبُ﴾ [هود: ٨٨]
وفيها بيان أن السبيل الذي لا محيد عنه لمن أراد الاستعلاء الإيماني، هو في اليقين بهذا الوحي، والتمسك به، والاستعلاء به، والإيمان بأنه رحمة وبينة وهدى:
- ﴿قالَ يا قَومِ أَرَأَيتُم إِن كُنتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبّي وَآتاني رَحمَةً مِن عِندِهِ فَعُمِّيَت عَلَيكُم أَنُلزِمُكُموها وَأَنتُم لَها كارِهونَ﴾ [نوح عليه السلام].
- ﴿قالَ يا قَومِ أَرَأَيتُم إِن كُنتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبّي وَآتاني مِنهُ رَحمَةً﴾ [صالح عليه السلام].
- ﴿قالَ يا قَومِ أَرَأَيتُم إِن كُنتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبّي وَرَزَقَني مِنهُ رِزقًا حَسَنًا﴾ [شعيب عليه السلام].
فهذه هي النتيجة والخلاصة التي ينبغي أن يخرج بها من يقرأ هذه السورة؛ العزة بالرسالة، والفرح بها، والاستعلاء الإيماني، والتمسك بالكتاب كما هو دون شعور بالحرج من أي شيء فيه، ودون التفكير في ترك شيء منه رغبةً في إسلام أحد، فهذا الدين عزيز، وهذه الرسالة شريفة، ولا ينبغي أن يُهادن فيها.
وبعد هذا التطواف مع سير الأنبياء، وبيان عزتهم وتمسكهم بالكتاب، واستعلائهم به، يأمر الله تبارك وتعالى نبيه أن يُجابه أهل الباطل بذات النفسية، ويُلقّنه القول: ﴿وَقُل لِلَّذينَ لا يُؤمِنونَ اعمَلوا عَلى مَكانَتِكُم إِنّا عامِلونَ.. وَانتَظِروا إِنّا مُنتَظِرونَ﴾ وما ذلك إلا ثقةً بالركن الشديد الذي يأوي إليه، بالله الذي له: ﴿غَيبُ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَإِلَيهِ يُرجَعُ الأَمرُ كُلُّهُ فَاعبُدهُ وَتَوَكَّل عَلَيهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعمَلونَ﴾ [هود: ١٢٣].
فهذه هي الخلاصة، وهذه هي النتيجة. وهكذا ينبغي أن يكون المُصلح المتبع للرسول صلى الله عليه وسلم، عزيزًا، مستعليًا بإيمانه، مدركًا قيمة ما بين يديه. فمن شعر بخفوتٍ في المعنى في نفسه، فليقرأ سورة هود، وليتلقَ آياتها بقلبه، وليلقِ لها السمع وهو شهيد.
المؤلف: نقلاً عن قناة مدونة.
اكتب تعليق اذا كان لديك اي اقتراح أو سؤال عن الموضوع